فصل: فوائد لغوية وإعرابية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وكذلك نجده سبحانه وتعالى يقول: {هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا استعجلتم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف: 24-25].
وأيضًا يقول الحق سبحانه عن الريح التي تغرق بأمواجها العالية: {إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الموج مِن كُلِّ مَكَانٍ وظنوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} [يونس: 22].
إذن فكلمة ريح تعبر عن القوة المدمرة للهواء؛ لأن الريح إذا اتحدت قوتها واتجاهها أصبحت مدمرة. ولكن إن قابلتها ريح ثانية فالتوازن يحدث بين القوتين. ولذلك حين يستخدم الحق كلمة الريح لا يتكلم عنها إلا للتخريب والتدمير. أما إن تكلم عنها للخير فسبحانه يأتي بكلمة رياح؛ لأن تعدد اتجاهات الرياح هو الذي يوجد التوازن في الحياة. فإذا أراد الله أن يهلك بالريح جاء بها من جهة واحدة فتصير قوة الريح من ناحية لا تعادلها قوة أخرى للريح من الجهة المقابلة لتتعادل القوتان.
{وَهُوَ الذي أَرْسَلَ الرياح بُشْرَى بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [الفرقان: 48].
ويقول سبحانه وتعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ} [الحجر: 22].
أي أن الرياح تنقل اللقاح بين النبات، فيتم التلقيح وتنبت الثمار ويأتي الخير. ولكن هناك آية واحدة جاءت فيها كلمة ريح وكانت تحمل الخير في قوله تعالى: {حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا} [يونس: 22].
وسبحانه وتعالى عندما استخدم كلمة {ريح} في هذه الآية وصفها بأنها {طَيِّبَةٍ}. وهنا في الآية سبحانه وتعالى: {وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46].
وريحكم أي قوتكم؛ لأن الريح هنا معناها القوة التي تدمر عدوكم. ونعلم أن السفن في الماضي كانت تُبحر بقوة الريح. وعندما تقَّدم العلم وجاء البخار والكهرباء أُلِغي شراع المراكب واستخدم بدلًا منه ماكينات تدفع حركة السفينة.
وتطلق كلمة {الريح} على الرائحة، فيقال: (ريح عطرة)، وهذه الرائحة تبقى في المكان حتى بعد أن يغادره من استخدم هذه الرائحة، ولكل إنسان من رائحة خاصة، تمامًا كما أنّ لكل إنسان بصمة خاصة، ولكننا لا نستطيع أن نميزها، ولكن الكلاب المدربة تميز الرائحة الخاصة بالإنسان، فيأتي الكلب ويشم رائحة الإنسان ويتتبعه إلى المكان الذي ذهب إليه. أو يستطيع أن يخرجه من بين عشرات الأشخاص. ولا تختلط رائحة أحد بأحد رغم وجودهم في مكان واحد، وإلا لما استطاع الكلب المدرب لأن يميز رائحة شخص معين ضمن عشرات الأشخاص الموجودين.
وقول الحق سبحانه وتعالى: {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} يعني بأن تنتهوا ولا يكون لكم أثر؛ لأنه ما دام لكم أثر في الأرض فلكم ريح تميزكم. وتلك التي- كما قلنا- أن الكلاب المدربة تميزها، ولكن الإنسان إذا مات ودفن فلا رائحة له. ويدلنا القرآن الكريم على ذلك حين يتكلم عن قصة يوسف عليه السلام حين ألقاه إخوته في الجب. وعثرت عليه قافلة، ثم اشتراه ملك مصر، ثم دخل السجن وخرج وأصبح هو عزيز مصر. وجاءه إخوته وأعطاهم يوسف عليه السلام قميصه ليلقوه على وجه أبيه يعقوب؛ ليرتد بصيرًا، بعد أن أذهب الحزن بصره، يقول الحق عن خروج العير من مصر إلى الشام حيث كان يعيش سيدنا يعقوب:
{وَلَمَّا فَصَلَتِ العير قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ} [يوسف: 94].
أي أن القافلة حين خرجت من بين المباني التي يمكن أن تكتم الريح بقوة كتلتها؛ لأن المباني لها إشعاعات قد تكتم الريح وتحجبه، وبعد أن صارت القافلة في الخلاء عرف يعقوب عليه السلام ريح ابنه يوسف من القميص الذي يحملونه: {قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ}
ثم يذيل الحق سبحانه وتعالى الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: {واصبروا إِنَّ الله مَعَ الصابرين} [الأنفال: 46].
وهذه تتمة الصورة التي يريدنا الله أن نلتفت إليها، فقد أمرهم الله أن يثبتوا في القتال، والقتال يحتاج إلى قوة وإلى عدم تنازع وإلى صبر على الشدائد؛ خصوصًا إذا كان عدوك صابرًا شديد البأس.
إذن ففي المعركة يريد الله عز وجل من المؤمنين الثبات في القتال وعدم الفرار، وذكر الله كثيرًا، وعدم التنازع حتى لا تضيع قوة المؤمنين، ويوصيهم سبحانه بالصبر؛ لأن عدوهم قد يكون عنده صبر وجلد، فلابد أن يمتلك المؤمن رصيدًا من الجلد والصبر؛ يُمَكّنه من هزيمة عدوه، وصفة الصبر تدل على المنافسة. وهي مأخوذة عندما كانوا يغطسون في الماء، فالذي يبقى تحت الماء أكثر من الآخر يكون نفسه أطول. ولذلك فسيدنا عباس وسيدنا عمر- رضي الله عنهما- دخلا في منافسة في الغطس. وقال له: نافسني، أي لنرى من الذي سيمكث تحت الماء أكثر- ويكون {صابرًا} أي يتحمل أكثر في المواقف الصعبة ويصبر صبرًا فوق صبر الخصوم. وقول الحق عز وجل هنا: {إِنَّ الله مَعَ الصابرين} [الأنفال: 46].
يثبت به سبحانه وتعالى أن كل مؤمن عليه أن يشعر أن الله تبارك وتعالى هو الذي انتدبه ليقوم بهذه المهمة القتالية وهو معه، فلا تخور نفسه؛ لأن الضعيف إذا ما تحصن بالقوي؛ أعطاه الجرأة والقدرة على الاحتمال، تمامًا كالولد الصغير، إذا مشى في الشارع وحده قد يعتدي عليه الأولاد الآخرون، ولكن إذا كان يسير مع أبيه لا يقترب منه أحد، فما بالك بالإنسان الذي هو مع ربه؛ لذلك يوصي الحق كل مقاتل أن يتذكر أنه في معية ربه وأن أي حدث ضار في الكون لا يستطيع أن يناله مهما كان ضعيفًا لأن قوة الله معه.
ولذلك يروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني. قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلانًا مرض فلم تعده.. أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده. يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني، قال: يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه. أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي. يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني؟ قال يا رب وكيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال استسقاك عبدي فلان فلم تسقه. أما إنك لو سقيته وجدت ذلك عندي».
فإذا مرض إنسان فقد سُلبت منه العافية فلا يستطيع أن يسير ولا أن يتحرك، بل يرقد في فراشه ليتألم، ويوضح لنا الحق سبحانه وتعالى: أنا إن سلبت منه العافية، وهي نعمة فأنا عنده. ولذلك إياك أن تفزع إذا تركتك النعمة ما دام المنعم معك. والمريض المؤمن يستشعر أن الله معه.
وحين يكون المسلم في معيّة الله فإن مقاييس المادة والبشريات لا تجيء أبدًا، والمثال هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في الغار، وقد جاء الكفار عند باب الغار فرآهم أبو بكر رضي الله عنه فقال: يا رسول الله لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا. هذا كلام منطقي مع النظرة المادية، فلو انحنى أحد هؤلاء الكفار ونظر من باب الغار لرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر، وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطمئن أبا بكر وينفي عنه ما جاء في باله من خوف أن يراهما الكفار. كان المفروض أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا اطمئن، إنهم لن ينظروا داخل الغار، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما ظنك باثنين الله ثالثهما وفي ذلك قال الإمام أحمد عن أنس أن أبا بكر حدثه قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم ونحن في الغار: لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه قال، فقال: يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما.
وما دام الله ثالثهما تكون المعيّة موجودة، وإذا كنت في معيّة من لا تدركه الأبصار، أتدركك الأبصار؟. طبعًا لا تدركك أبصار الأعداء والخصوم. اللهم اجعلنا في معيّتك دائمًا. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)}
أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم} قال: يقول: لا تختلفوا فتجبنوا ويذهب نصركم.
وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد رضي الله عنه في قوله: {وتذهب ريحكم} قال: نصركم، وقد ذهب ريح أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حين نازعوه يوم أُحد.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن زيد رضي الله عنه في قوله: {وتذهب ريحكم} قال: الريح النصر، لم يكن نصر قط إلا بريح يبعثها الله تضرب وجوه العدوّ، وإذا كان كذلك لم يكن لهم قوام.
وأخرج ابن أبي شيبة عن النعمان بن مقرن رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان عند القتال لم يقاتل أول النهار وآخره إلى أن تزول الشمس وتهب الرياح وينزل النصر. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)}
{تَفْشَلُوا} يحتملُ وجهين:
أحدهما: نصبٌ على جواب النَّهي.
والثاني: الجزم عطفًا على فعل النَّهْي قبله، وقد تقدَّم تحقيقهما في {وتَخُونُوا} قبل ذلك، ويدُلُّ على الثاني قراءة عيسى بن عمر {ويَذْهَبْ} بياء الغيبة وحزمه، ونقل أبو البقاء قراءة الجزم ولم يُقيِّدها بياء الغيبة.
وقرأ أبُو حيوة وأبان وعصمة {ويَذْهَبَ} بياء الغيبة ونصبه.
وقرأ الحسنُ {فَتَفْشِلُوا} بكسر الشين، قال أبو حاتمٍ: هذا غيرُ معروفٍ وقال غيره: إنَّها لغةٌ ثانية. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)}
الموافقة بين المسلمين أصلُ الدِّين. وأولُ الفساد ورأسُ الزَّلَلِ الاختلافُ. وكما تجب الموافقة في الدين والعقيدة تجب الموافقة في الرأي والعزيمة.
قال تعالى في صفة الكفَّار: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر: 14]، وإنما تتحد عزائم المسلم لأنهم كلَّهم يجمعهم التبرِّي مِنْ حوْلِهم وقُوَّتهم، ويتمحضون في رجوعهم إلى الله، وشهودهم التقدير، فيتحدون في هذه الحالة الواحدة.
وأمَّا الذين تَوهَّمُوا الحادثاتِ من أنفسهم فَضَلُّوا في ساحات حسبانهم، وأجْرَوْا الأمور على ما يسنح لرأيهم، فكلٌّ يبني على ما يقع له ويختار، فإذا تنازعوا تَشَعَّبَتْ بهم الآراءُ، وافترقت بهم الطرقُ، فيضعفون، وتختلف طُرُقُهم. وكما تجب في الدين طاعةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم تجب طاعة أولي الأمر، ولهذا يجب في كل وقت نَصْبُ إمام للمسلمين، ثم لا تجوز مخالفته، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أطيعوه ولو كان عبدًا مجده» وكان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا بعث سرِيَّةً أمَّر عليهم أميرًا وقال: «عليكم بالسواد الأعظم».
وإجماعُ المسلمين حُجَّةٌ، وصلاة الجماعة سُنَّةٌ مؤكَّدة، والاتِّباعُ محمودٌ والابتداع ضلالة.
قوله: {واصْبِروا} الصبر حَبْسُ النَّفْس على الشيء، والمأمور به من الصبر ما يكون على خلاف هواك.
{إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} يتولى بالكافية إذا حصل منهم الثباتُ وحَسُنَ التفويضُ. اهـ.

.تفسير الآية رقم (47):

قوله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما ذكرهم سبحانه ما أوجب نصرهم آمرًا لهم بالثبات عليه، ذكر لهم حال أعدائهم الذي أوجب قهرهم ناهيًا عنه تعريضًا بحال المنازعة في الأنفال وأنها حال من يريد الدنيا، ويوشك- إن تمادت- أن تجر إلى مثل حال هؤلاء الذي محط نظرهم الدنيا فقال: {ولا تكونوا} أي يا معشر المؤمنين {كالذين} وصور قبح عملهم من أوله إلى آخره فقال: {خرجوا من ديارهم} أي كل واحد من داره وهم أهل مكة، وكل من عمل مثل عملهم كان مثلهم، ولذا عبر بالوصف ليعم {بطرًا} أي طغيانًا وتكبرًا على الحق، ومادة بطر- بأيّ ترتيب اتفق- تدور على اللين القابل للعمل حتى ربط، فإنه لولا الضعف ما استوثق من المربوط، ومنه بطر الجرح- وهو شقه- والبيطار، وتارة يكون ذلك اللين عن دهش.
ومنه أبطرت حلمه أي أدهشته عنه، وذهب دمه بطرًا أي باطلًا للضعف عنه للحيرة في الأمر الموصل إليه، وتارة يكون عن مجاوزة الحد في الصلابة، ومنه بطر النعمة- إذا لم يشكرها فتجاوز الحد في المرح، فإن فاعل ذلك يمكنه الحكيم من مقاتله فيأخذه وهو يرجع إلى عدم احتمال القوى للشكر، ففاعل ذلك ضعيف وإن ظهر منه خلاف ذلك ما قال عمر- رضى الله عنهم-: العدل وإن رئي لينًا أكف عن الظلم من الجور وإن رئي شديدًا- أو كما قال- رضى الله عنهم-.
وأقرب من ذلك أن تكون المادة دائرة على الخلطة الناقلة من حال إلى حال.
ولما ذكر الحامل لهم على الخروج من أنفسهم، ذكر ما أوجبه لهم من غيرها فقال: {ورئاء الناس} أي خرجوا يرون الناس خروجهم وما يتأثر عنه ليروهم ما يقولون فيه، فإنهم لما قيل لهم؛ قد نجى الله عيركم فارجعوا، بطروا النعمة تبعًا لأبي جهل حيث قال: والله لا نرجع حتى نرد بدرًا فنشرب الخمور وننحر الجزور وتعزف علينا القيان فتسمع بنا العرب فلا تزال تهابنا أبدًا! فسقوا مكان الخمر كئوس المنايا الحمر، وناحت عليهم نوائح الزمان مكان العزف والقيان.
ولما ذكر نفس الخروج وما فيه من الفساد وذكر ثمرته الخبيثة الناشئة عن ذينك الخلقين، وعبر عنهما بالاسم إشارة إلى الثبات كما هو شأن الأخلاق، وعن الثمرة بالمضارع تنبيهًا على أنهم لا يزالون يجددونها فقال: {ويصدون} أي يوجدون الصد وهو المنع لأنفسهم وغيرهم {عن سبيل الله} أي الملك الأعظم في ذلك الوجه وهم عازمون على تجديد ذلك في كل وقت، فلما كانت هذه مقاصدهم كان نسجهم هلهلًا وبنيانهم واهيًا، فإنها من عمل الشيطان، وكل عمل لا يكون لله إذا صدم بما هو لله اضمحل، بذلك سبحانه أجرى سنته ولن تجد لسنته تحويلًا، فإن العاملين عبيد الله: {والله} أي فعلوا ذلك والحال أن المحيط بكل شيء الذي عادوا أولياءه {بما} أو يكون ذلك معطوفًا على تقديره: فأبطل الله بجلاله وعظمته أعمالهم وهو بكل ما {يعملون محيط} فهم في قبضته، فأوردهم- إذ خرجوا يحادونه- بدرًا فنحر مكان الجزور رقابهم وسقاهم مكان الخمور كئوس المنايا، وأصاح عليهم مكان القيان صوائح النوائح، ولعله قدم الجار إشارة إلى أنه لشدة إحاطته بأعمالهم كأنه لا نظر له إلى غيرها فلا شاغل له عنها. اهـ.